الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
الثاني: المعرفة وأعني بالمعرفة أن يعرف أربع أمور: يعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف الدنيا ويعرف الآخرة: فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريباً في هذا العالم وأجنبياً من هذه الشهوات البهيمية وإنما الموافق له طبعاً هو معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه فقط فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب الشكر إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله ويحصل به التنبيه على الجملة وكمال المعرفة وراءه فإن هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب إلا في علوم المعاملة. وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا والآخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها فإن أكل مثلاً أو اشتغل بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة. وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال فإن ذلك هو المفسد للنية. وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضا الله تعالى فلا يمكنه الخلاص === فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى المعنى الثالث وهو العلم: أعني العلم بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله والعلم بما يقربه من الله وما يبعده عنه والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله " وجميع ذلك قد أودعناه كتب إحياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها ومن ربع العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو مستغن عنه فيعرض عنه ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفاً عن المذمومة بعد محوها " فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها. فإن قلت: فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان ويدعوه إلى نصح الخلق أو نشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله فإن المريد المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم ولم === يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق إلى لقائه وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم والنصح لهم والدعاء إلى الله فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم سكارى في دينهم صماً عمياً قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب وأشرفوا على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له دواء عفواً صفواً من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر وأصاب لذة العافية بعد طول السقام ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا به تلك العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان فأخذته الرحمة والرأفة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد أن اهتدى إلى الطريق وشفي من === أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم وقرب هلاكهم وإشفاؤهم وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالاً للفتنة فلما اشتغل بذلك وجد الشيطان مجالاً للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفياً أخفى من دبيب النمل لا يشعر به المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فأقبل الناس إليه يعظمونه ويبجلونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك إذ رأوه شافياً لأدوائهم بمحض الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم فآثروه بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولاً كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه على الملوك والسلاطين فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه تلك اللذة وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق غضب فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن === رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال المتسع ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق الخطرات وكذلك إلى سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وربما زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه بل ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة لكان يغتنم ذلك إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن المرقى من البئر بسببه فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك ونحاه بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر فإن كان غرض الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه هدايتهم فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما === وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن اعوجاج النفس بعد الاستواء. فإن قلت: فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله تعالى وكان يود لو وجد من يعينه أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن ثنائهم وعن أموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده ولم يفرح بحمدهم إذا لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم. أما إلى السادات: فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيراً منه لجهله بالخاتمة. وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع! بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه. فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من الاشتغال بإصلاحهم. نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه. فإن قلت: فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ خربت القلوب فأقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حب الدنيا رأس كل خطيئة ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعاً إلا أنه صلى الله === عليه وسلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكاً لا ينزع الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفاً من أن يترك نفسه بالشهوات المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقاً لقوله تعالى " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول: إن الوعظ لحب الرياسة حرام كما لا يدع الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي بقول الله تعالى ورسوله إن ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس فإن الله تعالى يصلح خلقاً كثيراً بإفساد شخص واحد وأشخاص " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " وإن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فإنما يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ فأما تخرس ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب الدنيا فلا يكون ذلك أبداً. فإن قلت: فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخالف عليه وما الذي بقي بين يديه من الأخطار وحبائل الاغترار فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له: قد أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما قدرت عليك === فما أصبرك! وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من التفطن لجميع مداخل غروري! فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه في فراره من الغرور كله فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك قال الشيطان: يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي. فإن قلت: فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فأقول: يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة والانقلاب فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره ومن أمن مكر الله فهو خاسر جداً بل سبيله أن يكون مشاهداً جملة ذلك من فضل الله ثم خائفاً على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات إلى عز وهو غافل عنه ويكون خائفاً أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله ولا غافل عن خطر الخاتمة. وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط. ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض === الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال: أفلت مني يا فلان فقال: لا بعد. ولذلك قيل: الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم. فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر قلوب أولياء الله أبداً. فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فإن الأمور بخواتيمها. تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في أول ربع المنجيات " كتاب التوبة " والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ===
|